على امتداد التاريخ أدَّت عوامل كثيرة إلى تطور البحث العلمي، وترجمته إلى منتج مفيد للمجتمع، ومربِح اقتصاديّاً. وقد تكون «الحاجة» هي -فعلاً- من أهم العوامل التي أثمرت جهودها في البحوث العلمية طوال تاريخ البشرية، وخاصة في العلوم العسكرية التي تُعد أصل التطور في معظم مجالات البحث العلمي. وفي غياب دور مسرّعات البحث العلمي قد تتأخَّر عملية بلورة البحث العلمي، ونقله من المختبر إلى السوق، فعلى سبيل المثال أمضى العالم الأسكتلندي ألكسندر فلمنج، الذي اكتشف البنسلين (أول مضاد حيوي)، ما يقارب 40 عامًا لتحويل اكتشافه من قاعة البحث إلى السوق، في حين أن لقاح «فايزر» وغيره من اللقاحات والاكتشافات العلمية تُرجِمت -إبَّان جائحة «كوفيد-19»- إلى منتجات فعَّالة، وانتقلت من المختبر إلى السوق في غضون عام واحد فقط، وذلك بفضل مسرّعات البحث العلمي، التي تلعب دور البنية التحتية للبحوث التطبيقية.
وفي رأيي يتمثل أهم مسرّعات البحث العلمي في التشريعات «الرشيقة»، التي تسهّل وتدعم تحويل البحوث الأساسية إلى مشروعات صناعية في هيئة حلول تطبيقية، أو شركات ريادة أعمال، وقد يؤخر عدم إصدار مثل هذه التشريعات -بالسرعة المطلوبة- إنتاجيَّة البحث العلمي. وتتضمَّن المسرّعات أيضاً تمكين القطاع الخاص من استقطاب المعرفة والتكنولوجيا الجديدة في مشروعاته الحيوية، مع التأكد من عامل نقل المعرفة مع المؤسسة المتعاملة معه، فقد أثبتت أغلب الدراسات أن عامل تمكين القطاع الخاص في البحوث التطبيقية الجديدة هو الذي ساعد على تطور دول متقدمة على صعيد البحوث التطبيقية، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، في مجال البحث العلمي. ويمكن استخدام كثير من المحفزات التي تشجع الشركات الخاصة على الاستثمار في البحوث العلمية، مثل ربط الجهود البحثية بخفض الضرائب، ولذلك تجد كثيراً من الشركات الصناعية الكبرى في الغرب تتجه إلى الاستثمار في البحث العلمي من باب تخفيف الضرائب، أو عدم دفعها.
ومن جهة أخرى، فإن وجود المعاهد والمختبرات البحثية الوطنية يُعد من أهم مسرّعات البحث العلمي، ويكون ذلك عن طريق استبيان حالة البحث العلمي، وإعطاء جميع أصحاب المصلحة المختصين أولويات البحوث العلمية بوجه عام، والموضوعات البحثية الدقيقة بوجه خاص، وبذلك يمكن تسهيل عمليات تمويل البحوث، سواء من الجهات الحكومية أو من «الوقف المعرفي»، وفقًا لحاجة الدولة واستراتيجيتها، وذلك لأن البحث العلمي عمومًا تُعَد كيفية الصرف فيه أهم من كمية الصرف.
ومن مسرّعات البحث العلمي -من ناحية استثمارية- المدن أو الحدائق البحثية، التي تؤدي دوراً مهمّاً على صعيد استقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر في البحوث العلمية، وقد حقَّقت دولة الإمارات العربية المتحدة -أخيراً- نجاحات كثيرة في تطبيق مبدأ استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ويمكن اتباع منهج مماثل في مجال البحث العلمي بتفعيل المدن البحثية في هيئة مناطق اقتصادية حرَّة.
*مستشار جمعية المهندسين الإماراتية